shabab on the wall

shabab on the wall

في دعم الثقافة

إذا كانت الثقافة هي القدرة على التفاعل الحيوي مع المعلومة، إن بمعنى القدرة على استنباطها أو دمجها مع معلومة أخرى في خدمة غرض ما، فإن الثقافة هي آلية التأقلم والتطور وسواه من الأفعال الموجهة المجدية. فتعد جدتي الأمية خير مثال على مثقفة ما قرأت أبداً، إذ كانت معلوماتها تخدمها في كل مناحي حياتها، وعاشت بها كفؤة للتطور كما للأصالة. فالثقافة هنا تعنى إستخدام المعرفة في خدمة الحياة، بالإبداع والتميز بأنواعه. فهي فعل دائم لا مرتبة تحاز. والفن ضمن هذا التصور ضرورة، نجسر به بين المحسوس والمعلوم والمتخيل و نتلمس به أسئلة لا أجوبة لها. وهو خصوصية بشرية عامة، مارسه البشر منذ تعلموا الوقوف، ومارسته الجماعات منذها كل بخصوصية ثقافتها أي بخصوصية تأقلمها وتطورها ضمن سياقها الخاص الطبيعي والتاريخي.
ولحصاد موسم ثقافي آخر شجون في الأردن نحمل جديدها ونتحمل قديمها جميعاً كمعنيين بالشأن الثقافي العام وعاملين بهدف إبداعي. فنجد ثقافتنا وقد دلفنا القرن الواحد والعشرين محصورة بمفهوم المعارف العامة وليس المعرفة الضرورية الفعالة حين ضرورتها. ويجد المختصون منا في مجالات الإبداع المباشر كالفنون الجميلة والبصرية والسمعية مهننا بلا أهمية يومية، ومنتجنا منقطع الحيوية عن محيطه. فلا نستطيع إيجاد مبررات لضرورة عملنا الإبداعي. وهو محاصر ضمن إلحاقه كجزيء هامشي بالمفهوم المحدد والممارس للثقافة على أنها فائض زخرفي. فائض مكلف نزين به صورتنا في إستلابنا لمضاهاة أغنياء الأمم. شيء ننتجه لنثبت به للآخرين ومن خلالهم لأنفسنا أننا قادرون على مماثلة الشكل الذي يقدمونه. فهي ثقافة إتكالية على الآخرين، إن بمعنى الفرد أو الأمة، وإن بمعنى الإستنباط أو الدمج. فنجد معارفنا لا تخدمنا لا في الواقع الآني ولا في وضع تصور واضح لنهوض مستقبلي.  ونحن هنا خاسرون حتى بما نعرفه عن أنفسنا، فهو غير كاف لإصلاح أمرنا ثقافياً. وأنا أعني الأمر الثقافي الأردني، بمعنى الأمة أفراداً وأطرا وسواه. ولا أنسى حين أتكلم عن الثقافة هنا أن أتكلم عن بطوننا كما عقولنا، فموائدنا التي يزيد فيها المستورد إطراداً في كل عام خير مؤشر على فاعلية مخزوننا الثقافي، إذا فرغت الخوابي.
ولأن مهننا الإبداعية بالتعريف تابعة لمفهوم المعلومات العامة والفائضة، فهي تعاني بشكل أنيمي أولاً نتيجة إحتكام واقعها لقلة التفرغ وملاحقة العيش في مهن مثل التعليم والدعاية والإعلان ووظائف الدولة مما يؤثر على نوعية منتجنا الإبداعي. وثانياً تعاني نتيجة إحتكامها لمهن خارجة عنها مثل الكتابة والصحافة والعلوم الإنسانية والهندسة، وهي مهن لها الأسبقية في تطورنا المديني. فمن هذه المهن غالبية المسؤولين عن الثقافة والفنون في الدولة والقطاع الخاص، ومنهم لجان المقتنيات الفنية، ولجان تمويل الأعمال الإبداعية والمشاريع في الدوائر والوزارات، ولجان التحكيم في المسابقات والفرز، وكذلك الصحافة الثقافية والفنية، إلى آخره مما يؤثر على نوعية الأعمال التي تجد حيز التنفيذ وتسليط الضوء . ومن تزاوج سببي المعاناة الآنفين ينتج إفراز يضاعف المعاناة في ساحة ثقافية صغيرة كساحتنا. فضمن النظام العرفي السائد أوجدنا إزدواجية في المصالح ينافي وجودها إمكانية التعامل بأخلاق أي من المهن المزدوجة. وتعاني ثالثاً من تعميم فكرة حاجتها لدعم الجميع، فكأن الجميع قد أنجز مهامه في مهنه المختلفة والأساسية ولم يتبق عليهم سوى دعمنا ودعمها. وكأنها لا سلطة لها في تشذيب عملنا في كل المجالات، والرد بالدعم والإسناد مقابل الدعم.  وكأننا قد أكفينا حاجاتنا وجاء هذا الشيء المكلف الفائض لنبدد ما تبقى لدينا عليه. وكأنها في حاجتها المطردة للدعم لا تؤشر إلى قصور في القيام بمهام دعمها أصلاً. فأضحت مهننا رديفة للتسول المزمن. قد نكافؤها بما فاض من أواخر الموازنات في الدوائر والوزارات، وقد نعطيها مبالغ وخدمات ضمن مشاريع مؤقتة وآنية نمولها بنزر ما نصرفه بإسم تطويرها ودعمها. وتبقى هذه المهن الإبداعية بلا أهمية لذاتها وما تؤهلنا لفعله ثقافياً. وفي ذات الحين الذي نطبق به أفكاراً ومشاريع ريادية كبيرة وجميلة، فإن حصيلة منتجنا الإبداعي يبقى ضعيفاً على مستوى الريادة الحقيقية في إستنهاض الطاقات المحلية ثقافياً. ويبقى إرثنا من الورق الرسمي الذي قد يحتذى به في تشكيل آليات عمل مستدامة ونتناوله بالنقاش والتمحيص شحيحاً. وتبقى الفنون والإبداع والثقافة مجالاً للتجارب، بلا تراكم في آليات الدعم، ولا مخطط قصير أو طويل الأمد واضح للمعنيين لكي يستنهضوا الطاقات والهمم. ونحن هنا بصدد الشأن الذي يصعب علينا تجيير قيمة أفعالنا الإبداعية اليوم لغد ثقافي أفضل، ونحن هنا بصدد ثقافة تكون فاعلة في نهضتنا.
وحتى لا تكون الذاكرة اداة جلد لأنفسنا مرة أخرى على محصولنا الثقافي في بدايات ربيع آخر، سأقفز بنا مجازياً فوق الآراء المتباينة في تحليل أسباب التردي الذي نتفق على معاناتنا جميعاً منه. سأستعين على القفز بمنطاد مملوء بأسئلة ساخنة.  ولإطلاق المجاز شروط أهمها أن أعينكم على رؤية ما أراه تحت المنطاد. أرضية صغيرة خصبة ذات زرع غض وإن غارت جذوره وتشعبت، وثمر غير ذي جدوى بينة. ، فبرغم تطور الأدوات والشخوص والتمويل في شأننا الثقافي الإبداعي، لايقود البحث إلى أرقام رسمية ولا غير رسمية، سواء بما صرفته الحكومات في الميزانيات العامة أو الجزئية، أو أرقام إستشرافية في الميزانيات لمصاريف على الإبداع والفنون. وكذلك الوضع بالنسبة للقطاع الخاص، بما ينفقه في المجال الثقافي والفني وما يجنيه. ولا توجد أرقام واضحة ولا تقريبية تحدد قيمة أو تعدد ما تقتنيه الدولة من الفنون، ولا تراكم ما أنفقته عليها. فلا تحديد لأرقام رئيسية واضحة في الميزانيات العامة للدولة ولا بنود ذات تسميات واضحة. ناهيك عن وجود نظام فهرسة بسيط، قد يجمع كل المقتنيات الثقافية والفنية لدى الحكومة، أو ما يختص بالبصري والتشكيلي مثلاً.  ويبقى عرف التعامل السائد مع المبدع ضمن نوازع الدعم السريع الإنقاذي، ويبقى دور المبدع هو حل ألغاز المسابقات العامة والدوائر الثقافية ومشاريع التمويل والإقتناء المباغتة.
وحتى أزيل شبهة الشكوى الملاصقة للتسول عن طرحي الآنف، سآخذكم معي في تسلسل وهمي لعمل لجنة وهمية. فيعلن عن مشروع إبداعي جميل حيوي من حيث المفهوم، ويستلمه بشفافية الإعلان رجالات مشهود لهم بالإنجاز في مجالات مختلفة، يشكلون بحكم إنتماءاتهم العملية في أطر متعددة لجنة كبرى تستلم حياة ومستقبل المشروع الجميل. ولأن لكل هؤلاء مهام أخرى تتغلب في أهميتها على عمل هذه اللجنة الكبرى، فإنهم يجزؤن عمل اللجنة الكبرى وينيطونه بلجان فرعية. هو نظام عمل متبع في كل دول الدنيا ذوات إرث العمل المنهجي المؤسسي.  وقد تنيط اللجان الفرعية بعض مهامها بلجان أخرى متفرعة عنها. ولأن اللجان الكبرى تتشكل من شخصيات يصعب الوصول إليها، وليس من دورها الحقيقي أن تقابل كل ذي حاجة وسؤال، ينتهي الأمر بتسليمها العمل إعتيادياً لموظفين يلونها من حيث التسلسل الوظيفي. وهؤلاء قد يصدف لديهم إهتمام ما بالشأن الثقافي، إلا أنهم غير معنيين به وظيفياً وعملياً. هو أمر معتاد في كل بقاع الأرض، حيث يحتاج المثقف للتعامل مع الدولة ضمن شروطها.  وعلى كل، فما إبتدأ شفافاً بالإعلان الصحفي يصبح غائماً مع كل إيكال للجنة فرعية جديدة. فشخوص اللجان الفرعية لا معرفة للمثقف العادي بها بحكم وظائفها العامة وعملها في وزارات ودوائر ومؤسسات لا إطلاع له عليها، وهي كذلك غير معتادة عليه.  والمشروع الذي إبتدأ فكرة جميلة يروج لها رجالات المسؤلية أضحى عهدة في يد لجان فرعية لتقرر فيما تقرره أليات العمل وشروطه وكيفية إنجازه. وهي تعمل عليه بشكل إستثنائي يصعب تحديد مساره الورقي الرسمي ويصعب الحصول على المعلومة الواضحة حول المشروع برمته. كل هذا والمشروع قد تم الإعلان عنه منذ أمد، ويتداوله المعنيون بالتقديم له وهم قد لا يجدون شروط التقديم ولا لوائح القوانين الناظمة، ولا كيفية حماية ملكيتهم الفكرية، ولا أسماء المحكمين إلى آخره مما يعهد به إلى اللجان الفرعية الأخيرة. إن ما يترتب عن أدائنا الحالي في هذه المشاريع من بلبلة في حياة المعنيين بها من العاملين في المجال الثقافي يكاد يتحيز بشكل تام إلى جانب المثقف الضليع في الواسطة، وهي آفة تؤثر على ملكات وحرية المثقف الفكرية، إن لم نقل إنسانيته.  وما ابتدأ بالواسطة ينتهي بالواسطة وليس بيننا سبب للخلاف، لولا أن نريد منتجاً ثقافياً يبدد ظلام ثقافة الواسطة.
لا الوم الوزراء ولا الموظفين ولا شخوص ورجالات الشأن الثقافي، بل أريد أن تشغلنا آليات واضحة في عملنا حتى يكتمل عملنا كفريق. وإن كنت أتحفظ على كم المياومات الممكنة على حساب الشأن الثقافي الخارجة عن دعم العاملين فيه مباشرة. فيا ليت أن تجتمع اللجان ومن يتفرع عنها، وتقرر ضمن آليات عملها الوظيفي اليومي الإعتيادي الذي تحاسب عليه، الشروط وحيثيات العمل. فتطلع علينا بإعلان مشروع ثقافي ما، لجنة تحكيمه الكبرى، وتقدم لنا بكل ثقلها دعوتها الجادة لنا للمشاركة الفعالة، بشروط ناجزة، وقوانين ناظمة واضحة، ومحكمين معروفين مسؤولين. هنا تكون الفكرة والمعلومة والآلية في خدمة عمل المبدع ويكون المبدع مسؤلاً عما ينجزه بالدعم. 

No comments:

Post a Comment